زال اكتئابه فجأة إذ رأى الشمس دافئة مشرقة حين فتح عينيه، تبتسم له من نافذته الضيقة، ورد على ابتسامتها بابتسامة حقيقية، وقام من فراشه مغتبطاً للمرة الأولى في حياته، أو منذ بعيد بعيد، لا يذكر أنه ابتسم قبله، أو لعل مرارة أيامه أنسته طعم الابتسام، وكان يرى بعين عقله كيف استرخت عضلات وجهه سعيدة، وحين فتح النافذة وصار وجها لوجه أمام الدفء، وقرص الشمس يداعبه بأشعته الدافئة كأنه يشرق له وحده، أحس أن السعادة حلوة وحقيقية، ولها قدرة على صبغ كل شيء بلونها المشرق الدافيء الذي تخيله وردياً أو أزرق ضاوياً، أو حتى أحمر، بل أحس أن كل الألوان تومض بالدفء، واللون يصير حياة، اتسعت ابتسامته حتى تحولت إلى ضحكة وهو يراقب أصص جاره المتراصة المهترئة، وقد تكسرت أطرافها، لكن نباتاتها تورق وتزهر دوماً، وحدث نفسه مغتبطاً: رائع أن ترى أزهاراً وخضاراً كل صباح، وضحك فجأة ضحكة مسموعة وهو يتذكر غضبه وانتقاده مراراً لجاره، وقلة ذوقه في وضع هذه الأصص البشعة العتيقة على سطحه المطل مباشرة على نافذته، حتى أنه يرى سطحه كاملاً وهو مستلق في سريره، وكان يشعل سيجارته ويقول لأصدقائه في مقهى الرصيف: تصوروا، كرهني الحارة أبو ديب، يريد أن ينقل قريته إلى المدينة، كل يوم أستيقظ على صوت حيواناته، إمّا كلبه أو ديكه أو خروفه، ويسحب نفساً عميقاً من سيجارته ويحكي لهم كيف خطر لجاره أن يربي نحلاً ذات يوم، لكنه اعترض عليه بشدة وهدده بأن يقدم شكوى ضده، فأذعن الجار الكهل وهو يقول مغتماً: يا بني صادق الطبيعة والحيوانات، إنها نعمة حقيقية، ويضحك وهو يقول لرفاقه: تصوروا أبو ديب الذي لا يفك الحرف يعظني!!
لقد وصف لهم بدقة تلك الأصص -بعضها علب تنك صدئة، وبعضها خواب فخارية متشظية، كيف يزرعها بنباتات مختلفة ويعتني بها كأولاده بعد أن تركوه، فعاش وحيداً مع أصصه ونباتاته وحيواناته، تسليته الوحيدة التدخين، حتى اصفر شاربه الأبيض، كذلك اصبعاه الحاملان للسيكارة أبداً. كان صديقاً لأهل الحارة ما عداه هو -المثقف الكئيب- فكيف سيتفاهم مع رجل أمي بسيط يربي حيوانات على سطحه؟!
تأمل بدهشة شعوره الجديد نحو جاره الكهل، لأول مرة يشعر تجاهه بود، بل يغبطة على حياته الهادئة المستقرة، وكم مرة وصفه بأنه يعيش على الهامش، يدخن ويأكل، يطعم حيواناته ويسقي نباتاته، يزوره الجيران ليثرثر معهم.. كيف غير رأيه بهذه البساطة، هل لأن الشمس الدافئة سطعت بهية كملكة لم تعلن عن حضورها وغمرته بدفء غريب، أهي الشمس التي تتصدر كبد السماء، أم شمسه هو التي أشرقت في أعماقه بعد أن حجبتها طويلاً غيوم الكآبة الرمادية؟!
وهب صوت في داخله يستغيث: ارجوك لا تتذكر الكآبة، ولا تعدد لي أسبابها، ولا تحللها وتبحث في جذورها، أرجوك دعني أعش جمال اللحظة ودفأها، اتركني أتعمد بالشمس وأتمتع بخضار نباتات أبي ديب المغسولة بالمطر والمتعمدة بأشعة الشمس، والمضيئة بفرح لا يخفى.. واستجاب لرجاء النداء في روحه، وأغمض عينيه وهو يحس أن مسامه كلها تتفتح مستقبلة الشمس، وتحول دفء الشمس لملايين الشعاعات الرقيقة الذهبية، كل شعاع يدخل مساماً في جسمه ويتغلغل عميقاً، وسرت قشعريرة خفيفة في جسده وهو يرى الرطوبة العفنة تنكمش وتتلاشى في أعماقه السحيقة، قال ودموع صافية مختزنة في بئر كآبته تنسكب من أطراف عينيه: طهريني أيتها الشمس، أدفئيني، فقد مللت، رطوبة الكآبة؟ آه إنه يعرف كيف سيأتيه الجواب من عقله، سيعرف كيف سيتكلم المثقف الكئيب القابع في أعماقه، سيحكي له عن أزمات العصر المحلية والعالمية والكونية. سيصول ويجول بذكائه الغبي في الماضي والحاضر والمستقبل، وسيناقش أمامه مشاكل الإنسان المتشعبة كسرطان، أو سيحكي له عن شخصيات عظيمة وخائنة، وسيستعرض عضلاته العقلية في عرض ما يختزنه من معلومات وقراءات وتحليلات وكذبات تاريخية، وسيتركه بعد أن يشبعه كلاماً أسير كآبته الرمادية.. وتذكر أحاديثه التي لا تنتهي مع شلة أصدقائه في مقهى الرصيف، وتخيل أن الأحاديث تتحول كل يوم إلى بخار يتكاثف ويتصاعد غيماً رمادياً يظلل أيامه ووجوده.. أوه كفى، سمع الصوت الجديد يرجوه أن يتركه يعيش جمال اللحظة، جمال إشراق شمسه أو شمس الخارج، وأحس أن لا فرق بين الشمسين، وتساءل بجدية: ترى هل من علاقة بين الشمس في الخارج، وشمسه هو المحتبسة طويلاً في نفسه تحجبها الغيوم الرمادية..
حين فتح عينيه ومسح دموعه بكم بيجامته ليحتضن المشهد بعينين جديدتين، أو ليرجو المشهد الرائع أن يقبله فيه ابنا باراً، رأى أبا ديب يشعل سيجارة وقد جلس بين أصصه مستمتعاً بالشمس إلى يمينه خروفه، وعلى يساره كيس حبوب يرشها بين فينة وأخرى لدجاجاته التي تتراكض لالتقاطها..
وجد نفسه يصيح بصوت بدا له عالياً جداً: صباح الخير يا أبو ديب..
وأجفل أبو ديب من جاره الذي لم يصبح عليه يوماً، وانتفض متثاقلاً بقامته النحيلة المحنية ليتطلع إليه، وقبل أن يرد عليه ابتدره وقال: هل ترغب في أن أشرب القهوة عندك؟
وأتاه صوت ابو ديب الحنون مرتجفاً، وتذكر كم مرة سمعه يغني السكابا والميجانا وقال: أهلاً وسهلاً بك يا بني، ولكن أمهلني ربع ساعة لأرتب البيت..
ورد بسرعة: أتمنى لو نشرب القهوة على السطح يا عمي بين الدجاجات والخروف، والأصص الحلوة، ترك أبو ديب مذهولاً، وأسرع ينزع بيجامته ويلبس ثيابه وقد هبت عزيمة جبارة في داخله ترغمه على أن يقاوم الكآبة المزمنة في نفسه بكل السبل، وتدله على الطريق الصريح الذي أعمته كآبته المفزلكة عن رؤيته طوال سنين، ونزل الدرج متفائلاً، مرتفع المزاج، وقبل أن يقطع الشارع ليصل إلى بيت جاره الكهل، توقف لحظة وافتكر مؤكداً لنفسه أن جلوس أبو ديب وسيجارته بين أصبعيه المصطبغين والدجاجات حوله، والخروف المربوط إلى جانبه، والأصص المهترئة الصدئة التي تحتضن أجمل الورود والأزهار، والمشهد كله متعمداً بنور الشمس، لهو أجمل لوحة رآها بين آلاف اللوحات التي حضرها في أشهر وأفخم معارض الرسم والمتاحف العالمية.
2/3/1994