ثم إن
جرهما بغوا
بمكة ، واستحلوا خلالا من الحرمة فظلموا من دخلها من غير أهلها ، وأكلوا مال
الكعبة الذي يهدى لها ، فرق أمرهم . فلما رأت
بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وغبشان من
خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم وإخراجهم من
مكة . فآذنوهم بالحرب فاقتتلوا ، فغلبتهم بنو بكر وغبشان فنفوهم من
مكة .
وكانت
مكة في الجاهلية لا تقر فيها ظلما ولا بغيا ، ولا يبغي فيها
أحد إلا أخرجته فكانت تسمى :
الناسة
، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه فيقال إنها ما سميت ببكة إلا أنها كانت تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها شيئا .
قال
ابن هشام : أخبرني أبو عبيدة أن بكة اسم لبطن
مكة ، لأنهم يتباكون فيها ، أي يزدحمون وأنشدني :
أي فدعه حتى يبك إبله أي يخليها إلى الماء فتزدحم عليه وهو موضع البيت والمسجد .
فصل وذكر استحلال
جرهم
لحرمة
الكعبة ، فمن ذلك أن إبراهيم عليه السلام كان احتفر بئرا قريبة القعر عند
باب الكعبة ، كان يلقى فيها ما يهدى إليها ، فلما فسد أمر
جرهم
سرقوا مال
الكعبة مرة بعد مرة فيذكر أن رجلا منهم دخل البئر ليسرق مال
الكعبة ، فسقط عليه حجر من شفير البئر فحبسه فيها ، ثم أرسلت على البئر حية لها رأس كرأس الجدي سوداء المتن بيضاء البطن فكانت تهيب من دنا من بئر
الكعبة ، وقامت في البئر - فيما ذكروا - نحوا من خمسمائة عام وسنذكر قصة رفعها عند بنيان
الكعبة إن شاء الله .
فصل فلما كان من بغي
جرهم
ما كان وافق تفرق
سبأ من أجل سيل
العرم ، ونزول حارثة بن ثعلبة بن
عمرو بن عامر أرض
مكة ، وذلك بأمر طريفة الكاهنة وهي امرأة عمرو بن مزيقياء وهي من
حمير ، وبأمر عمران بن عامر أخي عمرو ، وكان كاهنا أيضا ، فنزلها هو وقومه فاستأذنوا جرهما أن يقيموا بها أياما ، حتى يرسلوا الرواد ويرتادوا منزلا حيث رأوا من البلاد فأبت عليهم
جرهم
، وأغضبوهم حتى أقسم حارثة ألا يبرح
مكة إلا عن قتال وغلبة فحاربتهم
جرهم
، فكانت الدولة لبني حارثة عليهم واعتزلت
بنو إسماعيل ، فلم تكن مع
أحد من الفريقين فعند ذلك ملكت
خزاعة - وهم
بنو حارثة -
مكة ، وصارت ولاية البيت لهم وكان رئيسهم عمرو بن لحي الذي تقدم ذكره قبل فشرد بقية
جرهم
، فسار فلهم في البلاد وسلط عليهم الذر والرعاف وأهلك بقيتهم السيل بإضم حتى كان آخرهم موتا امرأة ريئت تطوف بالبيت بعد خروجهم منها بزمان فعجبوا من طولها وعظم خلقتها ، حتى قال لها قائل أجنية أنت أم إنسية ؟ فقالت بل إنسية من
جرهم
، وأنشدت رجزا في معنى حديثهم واستكرت بعيرا من رجلين من
جهينة ، فاحتملاها على البعير إلى
أرض خيبر
، فلما أنزلاها بالمنزل الذي رسمت لهما ، سألاها عن الماء فأشارت لهما إلى موضع الماء فوليا عنها ، وإذا الذر قد تعلق بها ، حتى بلغ خياشيمها وعينيها ، وهي تنادي بالويل والثبور حتى دخل حلقها ، وسقطت لوجهها ، وذهب الجهنيان إلى الماء فاستوطناه فمن هنالك صار موضع
جهينة بالحجاز وقرب
المدينة ، وإنما هم من
قضاعة ،
وقضاعة : من ريف
العراق .