حين زل القمر عن قبة السماء، كانت مجموعة من الرجال، ومجموعة من البنادق داخل تجويف صخري تغطي أطرافه أشواك البلان والأعشاب البرية، وأعواد القصب التي امتصت رطوبتها الأيام والشموس الحزيرانية اللاهبة، ومن أمامه تمر ساقية الماء التي ولدها نبع عين أم العظام الواقعة على بعد أمتار فقط من المنطقة المحرمة التي تفصل القرية عن فلسطين المحتلة، ومن فتحات الصخور تبدو أمامك بحيرة طبرية كبساط من فضة تغتسل على جنباته أضواء البيوت وظلال الجبال في عمق فلسطين، ينهض على أطرافها الضياء... صفد وسمخ والمجيدل والغوير وسهل الحولة وغور بيسان، وعلى أهداب البحيرة تبدو بحيرات الأسماك الصغيرة التي صنعها الخواجات لامعة تحت نجوم الليل. أنفاس وأحلام وآهات وأوجاع وبنادق وعيون تكاد تفر من محاجرها تحنو عليها الصخور الآن....
كانت عينا عوض المسعود تبرقان وسط الظلام الذي خلفه غياب القمر، ترتفع حاجباه قليلاً وتنفتح أهدابه فيصل إلى قمم الجبال التي بدت كخيام سود على صدر الأفق الغربي، أو كقافلة جمال تركض نحو الضياء الناهض على جنباتها، ثم يستدير قليلاً ليمشط بناظريه كتل الصخور والأعشاب والمعابر التي عرفها جيداً، وفي كل الحالات ينتهي به المطاف إلى مياه الساقية التي ولدها النبع والتي تنحدر غرباً راكضة عبر تعرجات الصخور..، مياه لها صفاء العين، ورقة الروح تلتمع رغم ظلام الليل. ظل يراقب الماء.. امتد به النظر حتى كاد أن يسبق الساقية، وما أن يصل إلى حالة انعدام الرؤية حتى يعود من جديد ليغمس ناظريه في ماء الساقية، ويصيخ السمع ليدقق الأصوات المرافقة لخرير المياه.... كثير من الحيوانات البرية وردت المياه.. شربت وتمطت ولعبت ثم نزحت إلى أعالي الصخور.. وكثير من الضفادع تقافزت فأحدثت صوتاً خاصاً لا يمكن لأحد أن يحس به إلا من يعش هذه اللحظة تماماً..
ليل ومياه ومعزوفات وحيوانات برية وأعصاب مشدودة وآذان تلتقط كل الأصوات.. تفرزها تحللها.. تعيدها إلى أصولها، وعيون استولدت دمعها نسائم الليل ونداه، وأضناها السهر والتعب والعشق والانتظار.
تمنى عوض المسعود لو يستطيع النهوض قليلاً ليشرب براحتيه شيئاً من ماء الساقية كما كان يفعل من قبل... أحس بالعطش.. امتص شفتيه بلع ريقه.. سوّى مكانه جيداً.. أراح عجيزته وانبطح على صدره، صار أخمص البندقية ملاصقاً لوجنتيه... ثم نهض من جديد، رفع رأسه قليلاً، ثم عاد إلى وضعية الاحتراس وأطلق ناظريه في كل الاتجاهات.. ليستقر أخيراً كما في كل المرات السابقة على سطح الساقية...
آخ... ماؤنا صار محرماً علينا!؟. أنا عوض المسعود الذي عاش في هذه القرية كما عاش أبوه وجده... لحم أكتافي من الأرض، ود ماء شراييني من مائها... أنا الآن لا أستطيع النهوض لأملأ حفنتي من ماء النبع الذي يحتفظ بصورة وجهي كما كل الوجوه في القرية!!.
خطر له أن أحداً ما على الطرف الآخر يحاول الآن أن يشرب من نهاية الساقية.. تمنى لو يستطيع في هذه اللحظة تماماً أن يمنع المياه من المسيل.. تمنى أن يجففها الآن أو يحول مسارها شرقاً... أو يعكرها على أقل تقدير. أمسك حصاة صغيرة ورماها في قلب الساقية، أحدثت صوتاً ناعماً ضاع مع سقسقة المياه، ونقيق الضفادع... أحس بشيء من الارتياح.. انتابه شعور بأن هذه الحصية قد عكرت صفو الماء ولو لحظة واحدة... تداخلت في رأسه الكثير من الأفكار والكثير من الوقائع والكثير من التساؤلات...
أليس كارثة أن يحتلوا أرضنا ويشربوا ماءنا!؟. أليس مصيبة أن لا أستطيع النهوض الآن، لأروي جوفي من ماء بلادي..!؟.
أنا الذي تعرفني الصخور والآكام والأشواك، والطرقات، وتراب الأرض!.
ما الذي حدث لهذا العالم!... الظلم لن يدوم.
لامس زناد البندقية وشد كوفيته حول رأسه جيداً وابتلع أنفاسه وعادت هواجسه من جديد... ساعات الفجر هي الأكثر خطورة، هكذا علمتنا التجربة.. في مثل هذه اللحظات يهجم النوم، وتسترخي الأجساد وتمتد الأحلام، وترق الروح وينكشف ستار الليل.. هم يعرفون ذلك كما نعرف نحن تماماً... حاول استنهاض همته كما كانت في اللحظات الأولى لمهمته... استنفر حواسه.. حاول مقاومة الشرود.. أوغل عينيه في بحر الصخور الذي يمتد ويمتد حتى يصبح سهلاً فسيحاً على أطراف بحيرة طبريا... كل الصخور يعرفها... وكل المعابر جاسها بقدميه مرات عديدة في الأيام التي مرت... وكل الأعشاب البرية يعرف أسماءها وطعمها... البسباس والعكوب والخبيز والقريص والسنارية، وأشواك البلان والسدر والرتم والقندول والشومر.. وحجارة البازلت والصوان والحوار والكهوف والأودية والمداخل والمخارج ومراتع المواشي... كلها تنهض في ذاكرته الآن... تمنى لو يركض الآن.. حتى شاطيء البحيرة، ليغتسل كما كان يفعل في الماضي... هاجت به الذكرى..
ازدادت حواسه استنفاراً، واتقدت أكثر حين لاحت له من بعيد أشباح سوداء.. ترتفع حيناً وتنخفض أحياناً مع ارتفاع الصخور وانحناءاتها... دقق النظر ساورته ظنون كثيرة.. بدا متردداً إلى حين... رد كوفيته نحو الخلف فبانت أذناه تماماً... أحس بشيء من رطوبة الليل.. التصق بالصخور، وضع يده على الزناد... دبيب أقدام متباطئة حيناً. ومسرعة حيناً، وما أن تغيب برهة حتى تعود من جديد.. أحس بجسده يرتعش... كل مسامات جلده صارت مستنفرة الآن.. أعترته قشعريرة لم يشعر بها من قبل... انتصبت كل الشعيرات التي تغطي جسده،... جلدة رأسه كادت أن تغادر جمجمته... اقتحمته أنفاس غريبة أحس بها تماماً.. عزز وضعية الاحتراس.. ضاقت حدقتاه إلى أقصى حد ممكن.. ارتفعت أشباح، ثم غابت.. ثم ظهرت من جديد لكنها في هذه المرة أكثر اقتراباً... أدرك بتجربته أن الخطر قادم لا محالة.. وقد عزز ذلك التماعات الأسلحة التي فضحتها بقايا النجوم المتشبثة بصحن السماء. امتدت يداه سريعاً إلى أجساد الرجال النائمين خلفه.. تململ بعضهم ثم حاول النوم من جديد.. لامس وجوههم، أشعل اليقظة في أجسادهم.. حتى تناهضوا مذعورين أمام إصراره المتصل.. أشار بيده.. همس.. تنفس في آذان البعض.. وبعد أن أخذ الرجال أمكنتهم... ضغط على الزناد.. فدوى الرصاص ليثقب آخر ستائر الليل وامتد الصدى طويلاً مقطعاً تبتلعه الصخور ثم تشكله من جديد... طلقات متلاحقة أنصبت ناراً على المكان من كل الكمائن المنتشرة على طول الجبهة يعززها نيران الرشاشات التي أطلقتها كمائن الحرس الوطني المحاذية تماماً لكمائن المقاومة الشعبية على امتداد الجبهة.
رصاص.. وأضواء كاشفة، وحيوانات برية تقفز مذعورة بين الصخور وصرخات استغاثة، وأشباح تفر نحو الغرب، وخيوط رفيعة جداً تفصل بين الموت والحياة. وحين لاحت أعمدة الفجر، كانت رصاصات متفرقة مازالت تطلق من هنا أو هناك...
نفر الرجال عبر الصخور والأشواك وظلال الآكام والممرات الوعرة، إلى حيث العيون الناعسة التي أيقظها الرصاص، وأضناها الخوف والانتظار، خلف الأبواب والنوافذ الخشبية الهرمة... تاركين خلفهم حرارة أجسادهم وأعقاب سجائرهم التي احترقت تحت الأغطية، أو بين الأصابع الخشنة التي تكونت حولها لتمتص بصيصها، والكثير من الفوارغ النحاسية التي خلفها الاشتباك والكثير من الآهات والأوجاع والأحلام والهمهمات والمشاعر.
وحين بدأ صوت المؤذن يأتي مع ندى الفجر شجياً حنوناً مقطعاً، كانت أبواب البيوت المتخاصرة على جنبات الأزقة تستقبل الرجال والبنادق بينما بدأت الخيول المشدودة إلى أوتادها في أطراف البيوت تصهل صهيلاً رخيماً ناعماً طلباً لكلئها.. ومن خلف أبواب الخانات المغلقة ارتفع خوار متقطع خفيف لعجول وأبقار، وهمهمات لخراف وادعة وارتفع صياح الديكة في الأمكنة كلها.